وأستسمحكم، قرّائي الأعزّاء، أن أشذّ
عن إلتزامي بالكتابة حول الشّأن العامّ جزءا من مقالي هذا. فإنّى لم أعد أملك
لأمري كتمانا و لا أضنّ ما مررت به أمرّ مما يمرّ به الأضعف و الأفقر من مواطنيّ
المساكين. و ألج بكم بسرعة إلى ملخّص
روايتي و قد نزعت عنها الأسماء و التّواريخ محاولة منّي لتجنّب الشّخصنة، و أعدكم
بتحرّي
الصّدق في نقل مجرياتها:
"قبل بضعة أيّام، و أمام المحطّة الرّئيسيّة للحافلات ببنزرت (محطّة
تونس) فاجأتني سيّارة طائشة مسرعة و أنا على درّاجتي النّاريّة. و لم تكن ثوان
إلّا وقد إرتطمت مؤخّرة رأسي بعنف على السّيارة، و أردفتني الدّراجة ضربة على ضربة
بأن سقطت عند هبوطها على ذراعي الأيسر. و
بما أنّ ذلك كان أوّل عهدي بالحوادث (و آخرها إن شاء اللّه) فقد تحالمت ووقفت. و
لا أصف لكم حجم الضّجيج و قد تجمّع المسافرون والسوّاق حواليّ في "حضبة"
تونسيّة أصيلة. و لم أكن حقيقة أعي أو أرى الجمع. إلّا أنّني كنت مرتاعا لإختفاء الدرّاجة مباشرة بعد الحادث.
و ماهي إلّا هنيهة أن أتت سيّارة الإسعاف و حملتني، غصبا عنّي، و بطلب من
صاحب السّيارة. طلبت من مرافقي، عون الإسعاف، بعضا من ثلج أضعه على يدي علّ ألمي
يكفّ و قصفته بأسئلة متوالية حول أعراض "النّزيف الدّاخلي" و عن
"فرصي في النّجاة". فما كان منه إلّا أن ضحك و قهقه، ثمّ أجابني أنّ
الحالة "متعبة" (أضطرّ لحذف العبارة الأصليّة إحتراما للقرّاء). و أنّ
لا بأس أصابني و لا هو مناولني ثلجا و لا هو حتّى يملك ذلك. فسيّارة الإسعاف، لمن
لم يجرّبها، عربة عاديّة يرقد المصاب بداخلها على فراش خشن و يجلس عون
الإسعاف بجانبه القرفصاء على أرضيّتها
الحديديّة، و لا يوجد بداخلها أيّ أداوات أخرى و لا حتّى صندوق ثلج أو مسكّن ألم.
و بعد نقاش لذيذ بدون تكلّف حول "أسباب تردّي الحالة" أصرّ مخاطبي خلاله
على سباب الأساتذة لأنّهم "أكلوا البلاد و العباد" و لازالوا يضربون. و
ربط مباشرة بين ذلك و ضروف عمله. وصلنا
إلى المستشفى بسرعة و قد أطربني صوت السّيارة و زاد في "بهتتي"رائحة
البنزين المتسرّب.
و يا ليتني أرشدت مرافقي إلى منزلي
و يا ليتني لم أدخل ذلك المبنى، لعن اللّه كلّ متخلّف عن عمله. فغرفة الإستعجالي،
لمن لم يجرّبه، مكان وسخ قذر. وجدت داخله الطّبيب و معاونه جالسين يتحادثان بكلّ
تؤدة و تحضّر قلّ نظيره في تونس-الثورة. و مباشرة إصطحبني أحدهما إلى ركن، أرضيّته
مفروشة ببساط جافّ من الدّم و بجانبه أدواة التّنظيف مهملة. و هنالك طبّبني بكلّ
جفاء و غلضة. و لمّا عدت إلى سيادة الطّبيب أخبرني بأنّ لا بأس أصابني و بالحرف
الواحد 'برّة روّح" بدون أن ينهض أو حتّى أن يكشف عن رأسي. و رأيت عجوزا مكسورة
يداه يئنّ لأنّ الذّباب ألحّ في تلاعبه على أنفه و لم يكن لأنينه جواب عند
"الإطار الطبيّ". أخذت بنصيحتي طبيبي و شكرة المولى أنّ يدي اليمنى على
الأقل لا تزال تذوذ عنّي شرّ الحشرات من سكّان قسم الإستعجالي القارّين و
"روّحت".
قصدت عندها مركز المرور، أين ضنّ شرطيّ بالباب بي الضّنون (ربّما تكون
لحيتي المعفرّة و يدي المدمات و شبه عجزي عن المشي سببا خصوصا مع تزامن الأحداث مع
إضطرابات مع "أنصار الشرّيعة") و أراد تفتيشي إلى أن أنفذني من بين يديه
الرّئيس.
من الغد إكتملت فصول القصّة. فجدّتي إستوسطت لي حتّى ألج مركز التّصوير
للكشف عن رأسي. و المعتدي صاحب السيّاة أتاني و قد زال عنه الخوف مهدّدا إيّاي و
معلنا رفضه تعوضي. إلى أن علمت بأنّه مغادر تونس إلى السّعوديّة خلال يومين
فأخبرته بأنّ وقتي طويل و لا أمانع في إعادته من المطار للتّحقيق في الحادثة. و
عندها قلّ إستئساده و قبل تعويضي عن مصاريف الكشف "لا خوفا بل طمعا في
الأجر" على حدّ قوله. و لا أنسى أن أنوّه ب"محمّد" الذّي أعاد لي
درّاجتي و أعلمني أنّه أخفاها لأنّه "يعلم حرقة الأكسيدون و فقدان الدرّاجة
للنّاهبين". و لمّا عدت اليوم مع السّاعة 3:30 إلى المستشفى لأسدّد ال90
دينارا و أبطل الإلتزام الذّي أجبرني "الطّبيب"(أو أحد أولائك النّاهرين
للمرضى الجالسين محتسين القهوة في المستشفى). و لكنّ هيهاة، فالكلّ كان قد غادر و
لا سبيل حتّى إلى دفع دنانير لم يرض جلّادي إلّا أن "أرجع غدوة" لتسديدها."
أستسمحكم مجدّدا أنّي أطلت. و أختم: المستشفى موجود و
الآلات موجودة و الإطار الطبيّ موجود. و لكنّهم كاذبون و كاذبون و كاذبون. رأيت في
أروقة المستشفى ضروبا من الأوساخ و أنا شاهد على أطبّاء يبرحون عملهم قبل 11:30
صباحا. كما شهدت ألوانا يحزن لها القلب من ألوان الإحتقار و الإهمال لكلّ مريض
"زوّالي". و أوجّه ندائي إلى "الإطار الطبيّ": ألا تخجلون؟
أليست فيكم بقيّة من آدميّة؟ أعان اللّه من كان مثلي مضطرّا إلى ولوج المستشفيات
العموميّة عليكم. و قد فقدت الأمل كلّه في صلاحكم و أدعوا لكلّ زوّاليّ بأن يرزقه
الربّ و يرزقني ما يكفيه و يكفيني مشقّة التعامل معكم. والحمد لمن رزقني الصحّة و
العافية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire